بين الحياة والموت
للاستماع للمحاضرة
لخطبةُ الأولى:
إنَّ
الْحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ
مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، ومِنْ َسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ
فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ له، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إلَهَ
إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ صلي الله عليه وعلى آله وسلم.
{يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ
إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}
[آل عمران:102].
{يَا
أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ
وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء
وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ
عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا .
يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}
[الأحزاب:70-71].
أَمَّا بَعْدُ:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير
الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة,
وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار.
أَمَّا بَعْدُ:
فَأَنْ يَكُونَ الْمَرْءُ
مُعَلَّقاً بَيْنَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ بِنَفَسٍ يَتَرَدَّدُ فَتِلْكَ هِيَ
الْحَيَاةُ فِي الْأَحْيَاءِ، وَلَكِنَّ الظَّوَاهِرَ أَحْيَاناً تُمِيلُ كِفَّةَ
الْمَوْتِ فَيَبْدُو الْأَمْرُ إِلَى الْمَوْتِ مَائِلاً، وَقَدْ تَدُلُّ
الظَّوَاهِرُ أَحْيَاناً عَلَى رُجْحَانِ كِفَّةِ الْحَيَاةِ؛ فَيَبْدُو الْأَمْرُ
إِلَى الْحَيَاةِ مَائِلاً، وَلَكِنْ فِي الْحَيِّ الَّذِي يُشَارِفُ الْمَوْتَ
تَمَاماً كَمَا فِي الْحَيِّ الَّذِي لاَ تَبْدُو عَلَيْهِ ظَوَاهِرُ الْمَوْتِ
يَصْدُقُ هَذَا الْكَلاَمُ.
إِنَّ الْإِنْسَانَ مُعَلَّقٌ
بَيْنَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ بِنَفَسٍ يَتَرَدَّدُ، وَالْحَيَاةُ فِي الْبَدْءِ
وَفِي الْمُنْتَهَى بِيَدِ اللهِ وَحْدَهُ، يَقْضِي بِمَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمُ مَا
يُرِيدُ، بِيَدِهِ الْأَمْرُ، يَهَبُ الْحَيَاةَ لِلْأَحْيَاءِ وَيَسْلُبُهَا مَتَى
يَشَاءُ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ بِمَا يُرِيدُ.
إِنَّ الْأَحْيَاءَ فِي غَالِبِ
الْأَحْوَالِ يُلَوِّنُونَ الْحَيَاةَ بِأَلْوَانِ انْفِعَالاَتِهِمْ؛ فَالْفَرِحُ
يُلَوِّنُ الْحَيَاةَ بِلَوْنٍ مِنْ أَلْوَانِ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ وَكَأَنَّهَا
نَعِيمٌ مُقِيمٌ، وَالتَّعِسُ يُلَوِّنُ الْحَيَاةَ بِلَوْنٍ مِنْ أَلْوَانِ
الْحُزْنِ الدَّائِمِ وَالْبُؤْسِ الْمُقِيمِ، وَالْحَيَاةُ فِي النِّهَايَةِ هِيَ
الْحَيَاةُ، لاَ تَتَلَوَّنُ بِلَوْنٍ يُلَوِّنُهَا بِهِ الْأَحْيَاءُ.
الْحَيَاةُ هِيَ الْحَيَاةُ.
وَالْإِنْسَانُ إِذَا آتَاهُ
اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْعَقِيدَةَ الصَّحِيحَةَ، وَأَتَتْهُ الْبُشْرَى
قَبْلَ الْمَمَاتِ، الْإِنْسَانُ إِذَا جَاءَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ الْخَبَرُ الصَّحِيحُ أَنَّهُ عَلَى الْخَيْرِ،
وَكَانَ عَلَى الْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ مُقِيماً، وَكَانَ لِلْخَيْرِ مُوَاصِلاً،
وَكَانَ عَلَى الْبِرِّ مُقْبِلاً، وَكَانَ فِي الْخَيْرَاتِ بَاذِلاً، إِذَا كَانَ
كَذَلِكَ؛ فَطُوبَى، ثُمَّ طُوبَى، ثُمَّ طُوبَى.
يَقُولُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ:
((مَنْ
قَتَلَهُ بَطْنُهُ فَهُوَ شَهِيدٌ))،
فَهَذِهِ عَلاَمَةٌ مِنْ عَلاَمَاتِ الْخَيْرِ وَدَلاَلَةٌ مِنْ دَلاَلاَتِ حُسْنِ
الْخَاتِمَةِ يَذْكُرُهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ
وَسَلَّمَ عَلَى هَذَا النَّحْوِ الصَّرِيحِ: ((مَنْ
قَتَلَهُ بَطْنُهُ فَهُوَ شَهِيدٌ)).
وَكَانَ الْأَصْحَابُ رِضْوَانُ
اللهِ عَلَيْهِمْ عَلَى يَقِينٍ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ؛ فَكَانُوا يُحِبُّونَ أَنْ يَشْهَدُوا
الْجَنَازَةَ الَّتِي تَكُونُ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ، يَتَظَافَرُونَ مَعاً،
وَيَتَعَاضَدُونَ إِعْلاَماً وَإِخْبَاراً وَحَثًّا وَحَضًّا؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ
يَشْهَدُوا ذَلِكَ؛ لِيَقِينِهِمْ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.
وَالنِّهَايَةُ فِي النِّهَايَةِ
لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ اللهُ، النِّهَايَةُ فِي النِّهَايَةِ لاَ يَعْلَمُهَا
إِلاَّ اللهُ، إِذَا قَضَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِحُسْنِهَا؛ فَذَلِكَ،
وَإِذَا كَانَتْ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ؛ فَكَذَلِكَ، وَلَكِنْ تَبْقَى الْبُشْرَى،
وَيَبْقَى مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ
وَسَلَّمَ.
فَإِنَّ الْإِنْسَانَ فِي هَذِهِ
الْحَيَاةِ مُعَلَّقٌ بَيْنَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ بِنَفَسٍ يَتَرَدَّدُ،
مَرِيضاً كَانَ أَمْ صَحِيحاً، دَانِياً مِنَ الْمَوْتِ مُشْرِفاً عَلَيْهِ
مُعَانِياً لَهُ، أَوْ صَحِيحاً يَتَمَتَّعُ بِالصِّحَّةِ فَيَبْدُو عَلَى
ظَوَاهِرِ الْأَسْبَابِ بَعِيداً عَنْ مُوَاقَعَةِ الْمَوْتِ وَالْوُقُوعِ فِي
هُوَّتِهِ.
تَفْنَى تِلْكَ الْأَشْيَاءُ
بِمَظَاهِرِهَا وَتَبْقَى الْحَقَائِقُ وَحْدَهَا؛ فَكُلُّ مَا يُعَانِيهِ
الْمَرْءُ فِي الْحَيَاةِ لاَ يُعَدُّ شَيْئاً فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ عِنْدَ
النَّظَرِ إِلَى النِّهَايَةِ الَّتِي يَصِيرُ إِلَيْهَا، وَالْمُنْتَهَى الَّذِي
يَسْعَى إِلَيْهِ، يَسْعَى إِلَى الْمُنْتَهَى بِهِ مَرُّ اللَّيْلِ وَكَرُّ
النَّهَارِ؛ لِيُوَاقِعَ فِي النِّهَايَةِ أَمْرَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛
لِكَيْ يَأْتِيَ فِي الْمُنْتَهَى إِلَى رَبِّهِ فَرِيداً وَحِيداً كَمَا خَلَقَهُ
اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
إِذَا كَانَتِ الْحَيَاةُ
مَبْذُولَةً لِلّهِ، إِذَا كَانَ الْمَرْءُ سَاعِياً إِلَى اللهِ، إِذَا كَانَ
الْإِنْسَانُ حَرِيصاً عَلَى مَرْضَاةِ اللهِ، إِذَا كَانَتِ النَّزَوَاتُ
بَعِيدَةً، وَالشَّهَوَاتُ مُضْمَحِلَّةً، إِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ عَلَى رَبِّهِ
مُقْبِلاً، وَعَنِ الشَّهَوَاتِ مُدْبِراً، وَلِهَذَا الدِّينِ بَاذِلاً؛ فَمَا
يَضُرُّهُ أَنْ يَمُوتَ، مَا يَضُرُّهُ أَنْ يَمُوتَ؛ أَلاَ إِنَّهَا الْبِدَايَةُ
الْحَقِيقِيَّةُ لِلْحَيَاةِ الْحَقِّ، بَعْدَ ذَهَابِ الْوَهْمِ وَبَعْدَ فَنَاءِ
الْخَيَالِ تَبْقَى الْحَقِيقَةُ -وَالْحَقِيقَةُ وَحْدَهَا-.
صَحِيحٌ! أَنّهُ قَدْ لاَ
يَصِحُّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ صَاحِبٌ صَحِيحٌ، فِي الْحَيَاةِ كُلِّهَا بِطُولِهَا
وَعَرْضِهَا قَدْ لاَ يَصِحُّ لَكَ فِيهَا صَاحِبٌ صَحِيحٌ؛ فَتَفْقِدُ بِفَقْدِهِ
بَعْضَكَ، تَفْقِدُ بِفَقْدِهِ بَعْضَكَ، وَيَتَلَدَّدُ لِفَقْدِهِ بَدَنُكَ
وَجَسَدُكَ وَقَلْبُكَ.
صَحِيحٌ! قَدْ لاَ يَصِحُّ لَكَ
فِي الْحَيَاةِ رَفِيقٌ وَلاَ حَبِيبٌ، وَتَبْقَى فِي الْوَحْشَةِ تُعَانِيها
وَتُعَانِيكَ، وَتُزَاوِلُهَا وَتُزَاوِلُكَ، تَبْقَى فَرِيداً غَرِيباً فِي
صَحْرَوَاتٍ لَيْسَ لَهَا بَدْءٌ وَلاَ مُنْتَهَى، فِي هَذِهِ الْوَحْشَةِ وَهَذِهِ
الْغُرْبَةِ، وَلاَ أَنِيسَ إِلاَّ اللهُ - هُوَ الْحَيُّ الْبَاقِي الَّذِي لاَ
يَزُولُ -.
صَحِيحٌ! أَنَّهُ قَدْ لاَ
يِصِحُّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ بِطُولِهَا وَعَرْضِهَا - قَدْ لاَ يَصِحُّ - صَاحِبٌ
وَلاَ صَدِيقٌ وَلاَ رَفِيقٌ صَحِيحٌ، فَإِذَا صَحَّ ثُمَّ فُقِدَ؛ فَقَدْ فَقَدْتَ
بَعْضَكَ، فَقْدَتْ قَلْبَكَ، وَلاَ يَدْرِي أَحَدٌ مَتَى يَجِدُ قَلْبُهُ
مُسْتَقَرَّهُ.
يَا لَانْصِدَاعَ الْقَلْبِ
الَّذِي يُسَمُّونَهُ الْحَسْرَةَ!
يَا لَانْصِدَاعَ الْقَلْبِ
الَّذِي يُسَمُّونَهُ الْحَسْرَةَ!
يَا لَانْصِدَاعَ الْقَلْبِ
الَّذِي يُسَمُّونَهُ الْحَسْرَةَ! بِنِيرَانِهَا الَّتِي تَتَلَظَّى،
وَبِلَهِيبِهَا الَّذِي يَتَلَهَّبُ بَيْنَ الْجَوَانِحِ كَاوِياً، وَفِي
الْأَحْشَاءِ نَافِذاً، وَعَلَى مِثْلِ الْجَمْرِ يَنْبِضُ الْقَلْبُ.
وَلَكِنْ! هَذِهِ هِيَ
الْحَيَاةُ بِحَقِيقَةِ الْحَيَاةِ - وَلَيْسَتْ إِلاَّ الْحَيَاةَ -.
كَيْفَ الْخَلاَصُ؟
الْخَلاَصُ فِي الْإِخْلاَصِ،
وَلاَ صَلاَحَ لِلْبَدَنِ إِلاَّ بِصَلاَحِ الْقَلْبِ -كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-، لاَ صَلاَحَ لِلْبَدَنِ إِلاَّ
بِصَلاَحِ الْقَلْبِ.
نَعَم! فَلْتُكْبَتُ
الْعَوَاطِفُ جَانِباً.
نَعَم! فَلْيَسْتَعْلِ الْمَرْءُ
فَوْقَ نَصْلٍ مَسْمُومٍ يُغْرَسُ فِي قَلْبِهِ وَيُدْفَنُ فِي فُؤَادِهِ؛ فَمَا
لِاسْتِفْزَازِ الْعَوَاطِفِ خُلِقْنَا، وَإِنَّمَا لِكَبْحِ جِمَاحِهَا وُجِدْنَا؛
فَلْيَسْتَعْلِ الْمَرْءُ فَوْقَ عَوَاطِفِهِ، وَلْيَنْظُرْ إِلَى حَقِيقَةِ
الْحَيَاةِ؛ لِيَعْلَمَ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ فِي مُنْتَهَاهُ عِنْدَ الْقُدُومِ
عَلَى اللهِ.
نَعَم! لِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ،
وَلِكُلِّ حَالٍ لَبُوسُهَا.
نَعَم! هُوَ دِينُ اللهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ، تَتَفَاعَلُ بِهِ الْقُلُوبُ، تَحْيَى بِهِ الْأَرْوَاحُ، تَغْتَذِي
بِنُصُوصِهِ النُّفُوسُ، تَحْيَى عَلَيْهِ الْأَجْسَادُ، وَلاَ تَصِحُّ إِلاَّ
عَلَيْهِ الْحَيَاةُ.
نَعَم! إِنَّمَا هِيَ
الْمَسِيرَةُ تُقْطَعُ طَالَتْ أَمْ قَصُرَتْ، وَلَكِنَّ الْمُنْتَهَى مَعْلُومٌ،
لِذَلِكَ؛ عِنْدَمَا يَدْهَمُنَا الْمَرَضُ، وَتُنْشَبُ أَظَافِرُهُ
الْحَدِيدِيَّةُ فِي الْقُلُوبِ وَالْأَكْبَادِ لَيْسِ مِنْهَا فَكَاكٌ إِلاَّ
بِرَحْمَةِ رَبِّ الْعِبَادِ.
عِنْدَمَا يَأْتِي الْمَرَضُ
وَيُعَانِي مِنْهُ الْعَبْدُ مَا يُعَانِي، لَيْسَ الْخَوْفُ هَاهُنَا مِنَ
الْمَوْتِ؛ فَالْمَوْتُ عِنْدَمَا يَأْتِي يَأْتِي فِي مَوْعدِه،ِ لاَ يَتَقَدَّمُ
وَلاَ يَتَأَخَّرُ عَنْ مَوْعِدِهِ،
{وَكُلُّ
شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ}[الرعد:
8].
كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَ اللهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ بِمِقْدَارٍ، لاَ يَتَقَدَّمُ وَلاَ يَتَأَخَّرُ، وَإِنَّمَا يَأْتِي
فِي مَوْعِدِهِ، وَعَلَيْهِ؛ فَإِنَّ الْأَسَى يُرْفَعُ، وَإِنَّ الْإِشْفَاقَ
يَضْمَحِلُّ، هَاهُنَا تَعَامُلٌ مَعَ حَقِيقَةٍ قَائِمَةٍ كَأَنَّهَا فِي
النِّهَايَةِ -بَلْ هِيَ أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ وَأَجَلُّ- حَقِيقَةٌ رِيَاضِيَّةٌ
حَاسِمَةٌ جَازِمَةٌ وَاقِعَةٌ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ فِيهَا لَبْسٌ وَلاَ
الْتِوَاءٌ، حَقِيقَةٌ وَاقِعَةٌ؛ فَمَا الشَّأْنُ -إِذَنْ-؟
الشَّأْنُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ
الَّتِي يَحْيَى فِيهَا الْإِنْسَانُ مُتَخَبِّطاً كَأَنَّمَا يَسِيرُ فِيهَا
نَائِماً، الشَّأْنُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الَّتِي يَفْسَدُ فِيهَا الْقَلْبُ؛
فَيَفْسَدُ الْجَسَدُ وَتَفْسَدُ الْحَيَاةُ، مَا الشَّأْنُ -إِذَنْ-؟
الشَّأْنُ فِي هَذَا الْقَلْبِ
الَّذِي لاَ يَسْتَقِيمُ عَلَى صِرَاطٍ، وَإِنَّمَا هُوَ -وَكُمَا سُمِّيَ- دَائِمٌ
فِي تَقَلُّبِهِ، وَمَا سُمِّيَ الْقَلْبُ قَلْباً إِلاَّ مِنْ تَقَلُّبِهِ، هَذَا
هُوَ الشَّأْنُ، فَكَيْفَ يَصْلُحُ الْمَرْءُ؟ كَيْفَ تَصْلُحُ الْحَيَاةُ؟
كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ:
((إِنَّ
فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ؛ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا
فَسَدَتْ؛ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ؛ أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ))،
((أَلاَ
وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ؛ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ،
وَإِذَا فَسَدَتْ؛ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ؛ أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ)).
كَيْفَ يَصْلُحُ الْقَلْبُ؟
يَصْلُحُ الْقَلْبُ بِالْخُلُوصِ
مِنَ الشِّرْكِ، وَالْبِدْعَةِ، وَالْحِقْدِ، وَمَذْمُومِ الْخِصَالِ، هَذَا
صَلاَحُ الْقَلْبِ.
وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ رَتَّبَ الْجَزَاءَ عَلَى الشَّرْطِ؛
((إِذَا
صَلَحَتْ؛ صَلَحَ))،
((أَلاَ
وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً))
قِطْعَةٌ مِنَ اللَّحْمِ بِمِقْدَارِ مَا يُمْضَغُ - صَغِيرَةٌ هِيَ -،
((إِذَا
صَلَحَتْ؛ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ؛ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ؛
أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ))
هُنَا جَزَاءٌ قَدْ رُتِّبَ عَلَى شَرْطِهِ؛ فَلاَ صَلاَحَ إِلاَّ بِصَلاَحٍ، لاَ
صَلاَحَ لِلْجَسَدِ لاَ صَلاَحَ لِلْحَيَاةِ إِلاَّ بِصَلاَحِ الْقَلْبِ - كَمَا
قَالَ رَسُولُ اللهِ -، وَإِذَا فَسَدَ الْقَلْبُ؛ فَسَدَ الْجَسَدُ وَفَسَدَتِ
الْحَيَاةُ.
كَيْفَ صَلاَحُ الْقَلْبِ
-إِذَنْ-؟
بِخُلُوصِهِ مِنَ الشِّرْكِ،
وَخُلُوصِهِ مِنَ الْبِدْعَةِ، وَخُلُوصِهِ مِنَ الْحِقْدِ وَمَذْمُومِ الْخِصَالِ.
النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ رَتَّبَ الْغُفْرَانَ عَلَى هَذِهِ الْخِصَالِ
فِي حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ -وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ- أَنَّهُ
((إِذَا
كَانَ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانٍ اطَّلَعَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِلَى
خَلْقِهِ؛ فَيَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَيُمْلِي لِلْكَافِرِينَ، وَيَدَعُ أَهْلَ
الْحِقْدِ بِحِقْدِهِمْ حَتَّى يَدَعُوهُ)).
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ
الْمَرْوِيِّ عَنْ جُمْلَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:
((يَطَّلِعُ
اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - إِلَى خِلْقِهِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانٍ؛
فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلاَّ لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ)).
فَهَذِه هِيَ الْخِصَالُ الَّتِي
يَنْبَغِي أَنْ يَبْرَأَ مِنْهَا الْقَلْبُ؛ لِيَتَحَصَّلَ عَلَى الْغُفْرَانِ،
قَبْلَ دُنُوِّ النِّهَايَةِ الَّتِي لاَ تُعْلَمُ، الَّتِي تَقُولُ الشَّوَاهِدُ
إِنَّهَا دَانِيَةٌ - وَإِنْ غَفَلَ عَنْ دُنُوِّهَا الْغَافِلُونَ -، الَّتِي
تَقُولُ الظَّوَاهِرُ إِنَّهَا قَرِيبَةٌ - وَإِنِ اسْتَبْعَدَتْهَا الظُّنُونُ,
وَاسْتَبْعَدَتْهَا الْأَوْهَامُ -.
قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَ
النِّهَايَةُ، مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَحَصَّلَ عَلَى الْغُفْرَانِ؛ فَدُونَهُ
حَدِيثَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.
إِنَّ اللهَ - جَلَّ وَعَلاَ -
لاَ يَغْفِرُ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِينَ، لاَ
يَغْفِرُ إِلاَّ لِلْمُوَحِّدِينَ، لاَ يَغْفِرُ إِلاَّ لِأَصْحَابِ طَهَارَةِ
الْقَلْبِ وَنَقَاءِ الرُّوحِ وَصَفَاءِ النُّفُوسِ، أَمَّا الَّذِينَ
يَتَلَوَّثُونَ بِالْأَحْقَادِ وَالْأَحْسَادِ، أَمَّا الَّذِينَ تَجْرِي فِي
عُرُوقِهِمْ تِلْكَ الْأُمُورُ مِنْ مَذْمُومِ الْخِصَالِ؛ فَهُمْ عَنِ
الْغُفْرَانِ بِمَبْعَدَةٍ.
يَقُولُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ:
((فَيَغْفِرُ
لِلْمُؤْمِنِينَ...))
((فَيَغْفِرُ
لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلاَّ لِمُشْرِكٍ...))؛
فَالْمُشْرِكُ لاَ يُغْفَرُ لَهُ، الْمُؤْمِنُ يُغْفَرُ لَهُ فِي لَيْلَةِ
النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانٍ،
((فَيَغْفِرُ
لِلْمُؤْمِنِينَ، وَيُمْلِي لِلْكَافِرِينَ، وَيَدَعُ أَهْلَ الْحِقْدِ
بِحِقْدِهِمْ حَتَّى يَدَعُوهُ))،
((فَيَغْفِرُ
لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلاَّ لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ))،
مَذْمُومِ الْخِصَالِ، وَرَدِيءِ الصِّفَاتِ، مِنَ الْأَخْلاَقِ الْكَلْبِيَّةِ
وَالْأَخْلاَقِ السَّبُعِيَّةِ الَّتِي تَتَوَثَّبُ فِي النُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ،
وَالَّتِي لَوْ كُشِفَ الْغِطَاءُ لَأَبْصَرَتْ بَصَائِرُ الْبَصَائِرِ عَنْ أَمْرٍ
عَجِيبٍ؛ فَمَا بَيْنَ كَلْبٍ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ يُكَشِّرُ عَنْ أَنْيَابِهِ،
وَمَا بَيْنَ سَبُعٍ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ قَدْ تَوَثَّبَ لِلانْقِضَاضِ عَلَى
فَرِيسَةٍ يَهْتَبِلُ الْفُرْصَةَ لِلانْقِضَاضِ عَلَيْهَا، بِأَخْلاَقٍ
كَلْبِيَّةٍ، وَأَخْلاَقٍ سَبُعِيَّةٍ، وَأَخْلاَقٍ خِنْزِيرِيَّةٍ، وَأَمَّا
الْأَخْلاَقُ النَّبَوِيَّةُ الْمُصَطَفَوِيَّةُ فَلاَ تَكُونُ إِلاَّ
لِلْأَفْذَاذِ مِنَ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ -اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْهُمْ
يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ!-.
((فَيَغْفِرُ
لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلاَّ لِمُشْرِكٍ))؛
فَلاَ بُدَّ لِمَنْ أَرَادَ الْغُفْرَانَ أَنْ يَتَخَلَّى عَنِ الشِّرْكِ، وَأَنْ
يَحْذَرَهُ، وَأَنْ يُجَانِبَهُ، وَأَنْ يُحَادَّهُ، وَأَنْ يُشَاقَّهُ - ظَاهِراً
وَبَاطِناً -.
((أَوْ
مُشَاحِنٍ))؛
لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لاَ يُحِبُّ الشَّحْنَاءَ، إِنَّ اللهَ رَبَّ
الْعَالَمِينَ فِيمَا أَخْبَرُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ
وَسَلَّمَ عَمَّا يُحِبُّهُ مِنْ خِصَالِ بَنِي آدَمَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ:
((إِنَّ اللهَ
- جَلَّ وَعَلاَ - يُحِبُّ مَعَالِيَ الْخِصَالِ - يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأَخْلاَقِ
- وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا)).
تَدْرِي مَا سَفْسَافُهَا؟
قَدْ تَنْزَلِقُ فِي ذَلِكَ
قَدَمُكَ، بِتِلْكَ الشَّبَكَةِ الْمَلْعُونَةِ، مِنْ تِلْكَ الشَّبَكَةِ الَّتِي
تُنْصَبُ لَكَ؛ لِتَدْخُلَ فِي فِخَاخِهَا، هِيَ شَبَكَةٌ كَشَبَكَةِ
الْعَنْكَبُوتِ، تَأْتِي الذُّبَابَةُ مُؤَمِّلَةً، فَإِذَا مَا وَقَعَتْ لاَ
تَسْتَطِيعُ فَكَاكاً.
نَعَم! قَدْ تَنْزَلِقُ
الْقَدَمُ، فَمَا يَزَالُ يَجُرُّكَ خُلُقٌ ذَمِيمٌ؛ لِيُوَرِطَّكَ فِي خُلِقٍ
ذَمِيمٍ؛ لِيُقِيمَكَ عَلَى خُلُقٍ ذَمِيمٍ؛ لِيَنْحَدِرَ بِكَ عَنْ خُلُقٍ
ذَمِيمٍ، وَلاَ تَسْتَطِيعُ مِنْ ذَلِكَ فَكَاكاً، وَلاَ عَنْهُ انْصِرَافاً، وَلاَ
مِنْهُ خَلاَصاً، وَيَزَالُ الْمَرْءُ فِي تِلْكَ الدَّوَّامَةِ الْمَلْعُونَةِ
مِنْ حَطِيطِ وَسَافِلِ الْخِصَالِ، لاَ يَسْتَطِيعُ وَإِنَّهُ لَيُؤَمِّلُ، لاَ
يَسْتَطِيعُ وَإِنَّهُ لَيَرْجُو، لاَ يَسْتَطِيعُ وَإِنَّهُ لَيُحَاوِلُ؛
لِأَنَّهُ فَقَدَ الطَّرِيقَ، وَمَنْ فَقَدَ الطَّرِيقَ وَأَضَلَّهُ الطَّرِيقُ
فَلَيْسَ عَلَى طَرِيقٍ، وَإِنَّمَا هُوَ حَائِرٌ تَائِهٌ فِي الْمَتَاهَةِ لاَ
يُفِيقُ، وَإِنَّمَا عَلَى الْآخِرَةِ يُفِيقُ.
وَيْحَ ابْنَ آدَمَ! مَا
أَغْفَلَهُ.
وَيْحَ ابْنَ آدَمَ! وَهُوَ
مُعَلَّقٌ بَيْنَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ بِنَفَسٍ يَتَرَدَّدُ وَقَدْ مَالَتْ
كِفَّةُ الْمَوْتِ.
وَيْحَ ابْنَ آدَمَ! وَإِنَّهُ
لَعَلَى مِثْلِ الْجَمْرِ يَتَلَدَّدُ؛ لِأَنَّهُ يَهْتَبِلُ الْفُرْصَةَ
لِاقْتِنَاصِ لَذَّةٍ، وَالتَّوَثُّبِ لِلْحُصُولِ عَلَى شَهْوَةٍ، وَلاَ يَعْلَمُ
أَنَّهُ عَلَى مَنْطِقِ الذُّبَابِ, الْمِسْكِينُ لاَ يَعْلَمُ أَنَّهُ عَلَى
مَنْطِقِ الذُّبَابِ، يَقِفُ عَلَى حَافَةِ الْإِنَاءِ فِيهِ الْعَسَلُ يَقُولُ:
مَنْ يُوَصِّلُنِي إِلَيْهِ وَلَهُ دِرْهَمَانِ، فَإِذَا وَقَعَ فِيهِ قَالَ: مَنْ
يُخْرِجُنِي مِنْهُ وَلَهُ أَرْبَعَةٌ؟!!!
فَيَا أَصْحَابَ الْمَنْطِقِ
الذُّبَابِيِّ! حَنَانَيْكُمْ، دُونَكُمُ الطَّرِيقَ، دَلَّكُمْ عَلَيْهِ مَنْ هُوَ
بِكُمْ شَفِيقٌ، وَبِكُمْ رَحِيمٌ رَفِيقٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ
وَسَلَّمَ؛ ((إِنَّ
اللهَ - عَزَّ وَجَلَّ - يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأَخْلاَقِ وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا))،
السَّفْسَافُ كَالْعَسَلِ فِي ظَاهِرِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِيهِ فَهُوَ كَالذُّبَابِ
فِي ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ، لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْهُ وَلاَ أَنْ
يَنْفَكَّ عَنْهُ.
فَحَذَارِ، فَحَذَارِ، فَحَذَارِ
أَنْ تَتَوَرَّطَ فِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْعُمُرَ قَصِيرٌ.
كُنْ عَلَى عَقِيدَةٍ صَحِيحَةٍ،
كَمَا قَالَ الرَّسُولُ:
((فَيَغْفِرُ
لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلاَّ لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ))
((وَيَدَعُ
أَهْلَ الْحِقْدِ بِحِقْدِهِمْ حَتَى يَدَعُوهُ))؛
فَعَلَيْكَ أَنْ تَتَخَلَّصَ فِي عُبُودِيَّةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانٍ مِنْ
هَذِهِ الْأُمُورِ: مِنَ الشِّرْكِ، وَمِنَ الْبِدْعَةِ، وَمِنَ الْحِقْدِ خَاصَّةً
- فَإِنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ -؛
((وَيَدَعُ
-يَتْرُكُ- أَهْلَ
الْحِقْدِ بِحِقْدِهِمْ حَتَّى يَدَعُوهُ)).
الْحِقْدُ مَا هُوَ؟
الْإِنْسَانُ إِذَا مَا
اسْتُغْضِبَ فَلَمْ يَغْضَبْ فَهُوَ حِمَارٌ -كَمَا قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ
عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ-، وَلَكِنْ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ -
فَيَجْعَلُ غَضَبَهُ عَلَى مِقْيَاسِ الشَّرْعِ نَافِذاً، وَيَجْعَلُ أَثَرَهُ
بِمِقْيَاسِ الشَّرْعِ فَاعِلاً، الَّذِي يَكُونُ كَذَلِكَ - هُوَ الرَّجُلُ
حَقًّا.
((لَيْسَ
الشَّدِيدُ بِالصُّرْعَةِ...))
يَعْنِي: الَّذِي يَصْرَعُ النَّاسَ وَلاَ يَصْرَعُونَهُ،
((وَإِنَّمَا
الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ))؛
فَهَذَا هُوَ الشَّدِيدُ حَقًّا.
فَإِنْ كَانَ ضَعِيفاً لاَ
يَتَمَاسَكُ، مُتَهَالِكَ الْبُنْيَانِ؛ تَنْخَرُ فِي جَسَدِهِ الْأَمْرَاضُ،
نَعَم! تَأْكُلُ حِيناً كَبِدَهُ حَتَّى لاَ تَدَعَ فِيهِ خَلِيَّةً فَاعِلَةً لاَ
يَسْتَقِيمُ بِعَمَلِهَا حَيَاةٌ، وَيَعْدُو أَحْيَاناً عَلَى قَلْبِهِ فَيَأكُلُهُ
أَكْلاً حَتَّى لاَ يَدَعَ فِيهِ شَيْئاً، وَلاَ يَصِحُّ حِينَئِذٍ - فِيهِ - أَنْ
يُقَالَ: الْقَلْبُ الَّذِي لاَ يَحْمِلُنِي لاَ يَسْتَحِقُّ أَنْ أَحْمِلَهُ،
الْقَلْبُ الَّذِي لاَ يَحْمِلُنِي لاَ يَسْتَحِقُّ أَنْ أَحْمِلَهُ؛ فَلْيَذْهَبْ
مَزْجَرَ الْكَلْبِ، الْقَلْبُ الَّذِي لاَ يَحْمِلُنِي لاَ يَسْتَحِقُّ أَنْ
أَحْمِلَهُ.
النَّاسُ لاَ تَحْيَى
بِالْأَجْسَادِ، تَحْيَى بِالْقُلُوبِ، بِالْأَرْوَاحِ، وَإِنْ كَانَتْ هُنَالِكَ
مُعَلَّقَةً بَيْنَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ بِنَفَسٍ يَتَرَدَّدُ، بِنَفَسٍ
يَتَرَدَّدُ، لاَ يَأْتِي مِنْ دَاخِلٍ, وَإِنَّمَا يُفْرَضُ عَلَى الرِّئَتَيْنِ
فَرْضاً، يُفْرَضُ فَرْضاً، يُفْرَضُ فَرْضاً، بِنَفَسٍ يَتَرَدَّدُ.
نَعَم! النَّاسُ تَحْيَى
بِالْقُلُوبِ، بِالْأَرْوَاحِ، بِرَصِيدِ الرُّوحِ وَالْقَلْبِ، تَحْيَى فِي
الْحَيَاةِ لاَ بِشَبَقٍ يَحْيَى بِهِ الْمَرْءُ فِي كَثْرَةِ صِفَاتٍ كَأَنَّهُ
عُصْفُورٌ، وَلاَ بِتَحَمُّلٍ يَمْضِي بِهِ الْمَرْءُ فِي الْحَيَاةِ كَأَنَّهُ
الْبَغْلُ أَوِ الْجَمَلُ.
لاَ! وَإِنَّمَا هِيَ
الْأَرْوَاحُ وَحَيَاةُ الْقُلُوبِ، بِرَصِيدٍ يَحْيَى بِهِ الْمَرْءُ، يَبْذُلُ
بِهِ الْمَرْءُ، بِكَلِمَةٍ صَالِحَةٍ، وَعَمَلٍ مُطْمَئِنٍّ عَلَى قَرَارٍ،
بِعَقِيدَةٍ ثَابِتَةٍ، فَإِذَا جَاءَ الْمَوْتُ؛ جَاءت الشَّهَادَةِ - إِنْ شَاءَ
اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ -، وَالْأَمْرُ بَعْدُ بِيَدِ اللهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ، لِلّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ،
وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمُنْتَهى، وَهُوَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ شَهِيدٌ.
فَاللَّهُمَّ مُنَّ بِحُسْنِ
الْخَاتِمَةِ، مُنَّ بِحُسْنِ الْخَاتِمَةِ، مُنَّ بِحُسْنِ الْخَاتِمَةِ؛ إِنَّكَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
يَكْرَهُ السَّفَاسِفَ، وَهَذَا
الْحِقْدُ مَا هُوَ؟
الْغَضَبُ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعِ
الْمَرْءُ لَهُ إِنْفَاذاً، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مُخْرِجا؛ً كُظِمَ -لاَ دِيناً؛
وَإِنَّمَا عَجْزاً-؛ يَصِيرُ حِقْداً، يَسْتَثْقِلُ بِهِ الْمَرْءُ الْمَحْقُودَ
عَلَيْهِ، يَسْتَثْقِلُهُ، يَكْرَهُ النِّعْمَةَ الْوَاصِلَةَ إِلَيْهِ، يَتَمَنَّى
لَهُ الْهَلاَكَ، وَيَكْرَهُ لَهُ الْخَيْرُ، يَحْقِدُ عَلَيْهِ، كالجمل إِذَا
أَنْفَذَ غَضَبَهُ مِنْ بَعْدِ كَظْمِهِ - وَكَانَ قَبْلُ كَظِيماً - فَإِذَا
أُطْلِقَ، فَإِذَا أُطْلِقَ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يُنْفِذُ غَضَبَهُ حِقْداً
مَسْمُوماً.
يُقَالُ فِي الْمَثَلِ: فُلاَنٌ
أَحْقَدُ مِنْ جَمَلٍ، أَحْقَدُ مِنْ جَمَلٍ؛ فَيُنْفِذُ حِقْدَهُ بِغَيْرِ وَعْيٍ،
حِقْدٌ مَجْنُونٌ.
يَقُولُ الْمَأْمُونُ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((وَيَدَعُ
أَهْلَ الْحِقْدِ بِحِقْدِهِمْ حَتَّى يَدَعُوهُ))،
نَعَم! لَيْسُوا أَهْلاً لِلْمَغْفِرَةِ، لَيْسُوا أَهْلاً لِلاطِّلاَعِ
عَلَيْهِمْ،
((يَطَّلِعُ اللهُ إِلَى خَلْقِهِ لَيْلَةَ
النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانٍ؛ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلاَّ لِمُشْرِكٍ أَوْ
مُشَاحِنٍ))،
وَفِي الْحَدِيثِ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ:
((إِنَّ اللهَ
-عَزَّ وَجَلَّ- إِذَا كَانَ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانٍ اطَّلَعِ إِلَى
خَلْقِهِ؛ فَيْغَفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَيُمْلِي لِلْكَافِرِينَ، وَيَدَعُ أَهْلَ
الْحِقْدِ)).
يَطَّلِعُ وَيَتْرُكُ، يَتْرُكُ
أَهْلَ الْحِقْدِ، مَحَلٌّ نَجِسٌ بِقَلْبٍ نَجِسٍ حَوَى زِبَالَةَ الصِّفَاتِ
وَقُمَامَةَ الْعَادَاتِ, وَأَتَى بِأَحَطِّ دَرَكَاتِ الْأَخْلاَقِ وَالْخِصَالِ
وَالشِّيَاةِ، هَذَا إِنَّمَا تَؤُمُّهُ كُلُّ الْحَشَرَاتِ الْحَيَّاتِ
وَالنَّافِقَاتِ، هَذَا إِذَا مَا تَحُطُّ عَلَيْهِ الْهَوَامُّ الْبَغِيضَاتُ،
هَذَا لَيْسَ أَهْلاً لِنُزُولِ الرَّحَمَاتِ، هَذَا مَاذَا يَكُونُ؟
هَذَا لَوْ قُلْنَا: إِنَّهُ
لَيْسَ شَيْئاً؛ لَكُنَّا قَدْ مَدَحْنَاهُ، كَلاَ وَاللهِ! إِنَّكَ إِنْ قُلْتَ:
إِنَّهُ لَيْسَ شَيْئاً؛ تَكُونُ قَدْ مَدَحْتَهُ، لاَ، هَذَا أَحَطُّ مَا يُمْكِنُ
أَنْ يَجْتَمِعَ فِيهِ وَصْفٌ مُزْرٍ يَكُونُ بِهِ حَقِيقةً.
نَعَم! هَذَا قَلْبٌ؟!
لاَ؛ هَذَا قَلِيبٌ، لاَ؛ بَلْ
هَذَا كَنِيفٌ!
لَيْسَ قَلْباً، وَلاَ يُمْكِنُ
أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ قَلْبٌ، تَذُمُّ الْقُلُوبَ, إِنْ قُلْتَ: إِنَّهُ قَلْبٌ؛
فَقَدْ ذَمَمْتَ الْقُلُوبَ - قُلُوبَ الْأَحْيَاءِ -، تَنْبِضُ بِالْحَيَاةِ،
بِالْحَيَاةِ الْحَقَّةِ، تَسْتَمِدُّ الْحَيَاةَ بِقُدْرَةِ مُحْيي الْمَوْتَى،
يُحِيهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِقُدْرَتِهِ، بِإِحْيَائِهِ إِيَّاهَا، هَذِهِ
الْقُلُوبُ تَكُونُ لَهَا هَاجِياً وِبِهَا مُزْرِياً إِنْ قُلْتَ: هَذَا الْقَلْبُ
قَلْبُ، بَلْ هُوَ كَنِيفٌ، بَلْ هُوَ أَحَطُّ مَنْ ذَلِكَ؛ إِذِ الرَّجِيعُ
يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فَائِدَةٌ عَلَى نَحْوٍ مِنَ الْأَنْحَاءِ، إِمَّا
بِذَاتِهِ - غِذَاءً لِلْهَوَامِّ وَالْحَشَرَاتِ -، وَإِمَّا بِالاسْتِحَالَةِ -
عِنْدَمَا يَصِيرُ شَيْئاً آخَرَ -، وَأَمَّا هَذَا فَهَذَا مَاذَا؟!
((فَيَدَعُ
أَهْلَ الْحِقْدِ بِحِقْدِهِمْ حَتَّى يَدَعُوهُ))،
أَيَّتُهَا الْقُلُوبُ الشَّارِدَةُ وَالْأَرْوَاحُ النَّافِرَةُ! إِلَى أَيْنَ؟
إِلَى أَيْنَ؟!
إِنَّ الْعَبْدَ مُعَلَّقٌ
بَيْنَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ بِنَفَسٍ يِتَرَدَّدُ، وَقَدْ يُفْرَضُ عَلَيْهِ،
يُفْرَضُ عَلَيْهِ فَرْضاً؛ فَلاَ يَنْبُعُ مِنْهُ نَبْعاً، وَإِنَّمَا يُفْرَضُ
عَلَيْهِ فَرْضاً، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هُوَ مُحْيِي الْمَوْتَى، عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، يَحُيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قَادِرٌ - هَوُ -
وَقَدِيرٌ وَمُقْتَدِرٌ عَلَى أَنْ يَمُنَّ بِالْحَيَاةِ عَلَى الْجَسَدِ الَّذِي
يُشَارِفُ أَنْ يُفَارِقَ الْحَيَاةَ، إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَهُوَ
- سُبْحَانَهُ - لاَ يَقْطَعُ رَجَاءَ الْمُرْتَجِينَ، لاَ يَقْطَعُ رَجَاءَ مَنْ
يَرْتَجِيهِ؛ فَيَا رَبَّ الْعَالَمِينَ! وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ! وَيَا ذَا
الْقُوَّةِ الْمَتِينُ! لاَ تَقْطَعْ رَجَاءَ عِبَادِكَ فِيكَ؛ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ
هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ صَلاَةً وَسَلاَماً دَائِمَيْنِ
مُتَلاَزِمَيْنِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ الصَّفْحَ
وَالتَّسَامُحَ وَالصَّبْرَ وَالْوَفَاءَ وَالْبَذْلَ - كُلُّ أُولَئِكَ - خِصَالٌ
مَحْمُودَةٌ وَشِيَاةٌ مَرْمُوقَةٌ، كُلُّ أُولَئِكَ غَايَاتٌ تَتَقَطَّعُ دُونَ
بُلُوغِهَا الْأَعْنَاقُ، قَدْ يَعْلَمُ الْمَرْءُ فِي نَفْسِهِ خَلَلاً
بِاخْتِلاَلِ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْخَيْرِ فِيهِ، نَعَم! بِاخْتِلاَلِ صِفَةٍ
يَضَعُ الْيَدَ عَلَيْهَا عِنْدَ تَفْتِيشِهِ فِي أَطْوَاءِ قَلْبِهِ وَمَطَاوِيهِ،
فيَضَعُ الْيَدَ عَلَيْهَا هُنَا، هُنَا خَلَلٌ يَحْتَاجُ إِصْلاَحاً، وَلاَ
يُصْلِحُ الْقُلُوبَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَهَا، هُنَا, هَذَا الْخَلَلُ قَدْ
يَلْتَهِمُ الْحَيَاةَ وَلاَ يُصْلَحُ، قَدْ يُمْضِي الْمَرْءُ عُمْرَهُ فِي
إِصْلاَحِ خَلَلٍ وَاحِدٍ فِي مَنْظُومَةِ الْأَخْلاَقِ - وَهِيَ مَنْظُومَةٌ
مُتَكَامِلَةٌ -؛ فَإِنَّ الْقِيَمَ لاَ تَتَبَعَّضُ، وَالْأَخْلاَقُ لاَ
تَتَجَزَّأُ، نَعَم لاَ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَجْمُوعِ وَلاَ عَلَى اعْتِبَارِ
الْأَزْمَانِ وَالْحَالاَتِ.
الْقِيَمُ لاَ تَتَبَعَّضُ،
الْأَخْلاَقُ لاَ تَتَجَزَّأُ، لاَ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَجْمُوعِ، بِمَعْنَى:
أَنَّ الْعَبْدَ يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ وَفِيّاً وَهُوَ خَائِنٌ، يُرِيدُ أَنْ
يَكُونَ مُخْلِصاً وَهُوَ غَدَّارٌ، يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ بَذُولاً وَهُوَ شَحِيحٌ
بَخِيلٌ، يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ مُحَصِّلاً لِخُلِقٍ فَاقِداً لِبَقِيَّةِ
الْأَخْلاَقَ، لاَ تَتَجَزَّأُ الْقِيَمُ، كُلٌّ فَاعِلٌ بِحَيَاةٍ، فَإِذَا مَا
تَجَزّآ صَارَا كَائِناً مُشَوَّهاً لاَ يَمُتُّ بِصِلَةٍ إِلَى الْأَخْلاَقِ.
الْقِيَمُ لاَ تَتَجَزَّأُ،
وَالْأَخْلاَقُ لاَ تَتَبَعَّضُ، لاَ بِاعْتِبَارِ الْمَجْمُوعِ وَلاَ بِاعْتِبَارِ
الْحَالاِتِ، يَعْنِي: تَأَتِي الْفُرْصَةُ السَّانِحَةُ لِلْخِيَانَةِ وَالْمَرْءُ
عَلَى خُلُقِ الْوَفَاءِ، فَيُنَحِّيهِ جَانِباً وَيُوَاقِعُ الْخِيَانَةَ، ثُمَّ
يَرْتَدِي لَبُوسَ الْوَفَاءِ!
لاَ؛ لاَ بِاعْتِبَارِ
الْحَالاَتِ وَلاَ بِاعْتِبَارِ الْأَزْمَانِ؛ أَنْ يَكُونَ أُسْبُوعاً وَفِيّاً
وَأُسْبُوعاً عَلَى الْغَدْرِ مُقِيماً، أَنْ يَكُونَ أُسْبُوعاً مُخْلِصاً
وَأُسْبُوعاً عَلَى الشِّرْكِ وَالْكُفْرَانِ قَائِمٌ وَدَائِمٌ وَمُقِيمٌ، لاَ
تَتَبَعَّضُ لاَ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَجْمُوعِ وَلاَ عَلَى اعْتِبَارِ
الْأَزْمَانِ وَالْحَالاَتِ.
فَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى سَيِّدِ
الْكَائِنَاتِ وَجَدْتَ الْأَخْلاَقَ كُلَّهَا مَجْمُوعَةً بِجَمْعِهَا مِنْ
جَمِيعِ أَقْطَارِهَا فِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَجَالِ
الْعَظَمَةِ فِيهِ جَعَلَتْ أَقْطَابَ الْقَائِمِينَ عَلَى عَظَمَتِهِ
بِمُفْرَدِهَا مُنْحَازَةً إِلَيْهِ دَائِرَةً فِي فَلَكِهِ وَحَوْلَهُ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَتَجِدُ عُمَرَ، بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ، مَعَ عُثْمَانَ،
وَعَلِيٍّ، وَطَلْحَةَ، وَالزُّبَيْرِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَسَعِيدِ بْنِ
زَيْدٍ، تَجِدُ الصَّحَابَةَ مِمَّنْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ، وَمِمَّنْ شَهِدَ
بَدْراً، وَمِمَّنْ شَهِدَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ، تَجِدُ الصَّحَابَةَ مِمَّن
كَانَ سَابِقاً إِلَى دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِيهِ أَوَّلاً، تَجِدُ
الصَّحَابَةَ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ- تَجِدُ كُلاً فِيهِ مِنْ مَجَالِ
الْعَظَمَةِ مَا قَدْ تَفَرَّدَ بِهِ؛ فَهَذَا أَبُو بَكْرٍ نَمُوذَجٌ قَائِمٌ
بِذَاتِهِ، وَهَذَا عُمَرُ نَمُوذَجٌ قَائِمٌ بِذَاتِهِ، وَهَذَا عُثْمَانُ
نَمُوذَجٌ قَائِمٌ بِذَاتِهِ، وَهَذَا عَلِيٌّ، وَهَكَذَا، فِي كُلٍّ مِنْ
هَؤُلاَءِ عَظَمَةٌ مُتَفَرِّدَةٌ وَقَعَتْ عَلَى مَا يُوَازِيها لاَ مَا
يُسَاوِيها، وَلاَ مَا يُمَاثِلُهَا، وَلاَ مَا يُنَاظِرُهَا فِي رَسُولِ اللهِ،
فَاجْتَمَعَ هَذَا كُلُّهُ فِيهِ؛ فَأَيُّ كَمَالٍ؟!
وَالْمَرْءُ يُحَاوِلُ إِذَا
وَضَعَ يَدَهُ عَلَى مَوْطِنِ الْخَلَلِ فِيهِ -فِي قَلْبِهِ-، فِي قَلْبِهِ؛
لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَالَ:
((إِذَا
صَلَحَتْ؛ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ؛ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ))
دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُهْتَمَّ بِالْقَلْبِ فَوْقَ الاهْتِمَامِ
بِالْجَسَدِ، أَنْ يُفَتَّشَ فِيهِ، وَأَنْ يُبْحَثَ فِي أَحْوَالِهِ
وَتَقَلُّبَاتِهِ؛ حَتَّى يَسْتَطِيعَ الْإِنْسَانُ أَنْ يَعْلَمَ أَيْنَ
الْخَلَلُ، وَحَتَّى يَدْرِيَ مِنْ أَيْنَ يَبْدَأُ الْإِصْلاَحَ فِي الْقَلْبِ
الَّذِي تَدَاعَى -أَوْ أَوْشَكَ عَلَى التَّدَاعِي-، فِي الْقَلْبِ الَّذِي
تَصَدَّعَ فَشَارَفَ التَّهَالُكَ مُتَهَدِّماً، حَتَّى يَسْتَطِيعَ الْإِنْسَانُ
أَنْ يَعْلَمَ أَيْنَ هُوَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ.
النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّ ذَلِكَ مَجْمُوعٌ فِيهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-؛ فَأَيُّ عَظَمَةٍ؟!
لاَ يُمْكِنُ أَنْ
تَتَصَوَّرَهُ، إِنْ شِئْتَ الْكَمَالَ فِي كُلِّ خَصْلَةٍ مَحْمُودَةٍ عَلَى
أَتَمِّ مَا تَكُونُ فِي بَشَرٍ فَهِيَ عَلَى رَسُولِ اللهِ قَائِمَةٌ مَاثِلَةٌ
بَائِنَةٌ ظَاهِرَةٌ - بَاِئَنةٌ مِنَ الظُّهُورِ، لاَ مِنَ الْبَيْنِ وَالْبُعْدِ
وَإِنَّمَا مِنَ الظُّهُورِ؛ فَقَدْ بَانَتْ فِيهِ - لاَ مِنْهُ وَلاَ عَنْهُ -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدُلُّنَا عَلَى عِبَادَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانٍ؛ إِيمَانٌ
بِاللهِ رَبِّ العَالَمِينَ، خُلُوصٌ مِنَ الشِّرْكِ: مِنْ شِرْكِ الْمُعْتَقَدِ،
مِنْ شِرْكِ الضَّمِيرِ، مِنْ شِرْكِ الْقَلْبِ، مِنْ شِرْكِ اللِّسَانِ، مِنْ
شِرْكِ الْجَوَارِحِ، خُلُوصٌ مِنَ الشِّرْكِ جُمْلَةً ظَاهِراً وَبَاطِناً،
وَإِلاَّ فَلاَ غُفْرَانَ.
((فَيَغْفِرُ
لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلاَّ لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ))،
((يَغْفِرُ
لِلْمُؤْمِنِينَ))،
تَحْقِيقُ الْإِيمَانِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ، الْخُلُوصُ
وَالْبَرَاءَةُ مِنَ الشِّرْكِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي
يَنْبَغِي أَنْ يُعْقَدَ عَلَيْهِ الْخِنْصَرُ أَوَّلَ مَا يُعْقَدُ عِنْدَ عَدِّ
الْخِصَالِ وَعِنْدَ السَّيْرِ إِلَى الْكَرِيمِ الْمُتَعَالِ، فَهَذَا أَوَّلاً.
هَذِهِ الْعِبَادَةُ
تَسْتَتْبِعُ حَتْماً طَهَارَةَ الْقَلْبِ مِنَ الْحِقْدِ؛ إِذْ لاَ يُمْكِنُ أَنْ
يَجْتَمِعَ الْمَاءُ وَالنَّارُ فِي يَدٍ، لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَتَصَوَّرَ الْمَرْءُ
الْمَاءَ وَالنَّارَ قَدِ اجْتَمَعَا فِي يَدٍ، لاَ يُمْكِنُ لِذَلِكَ أَنْ
يَكُونَ، وَكَذَلِكَ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَجْتَمِعَ الطُّهْرُ وَالنَّجَاسَةُ فِي
مَحَلٍّ، لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَجْتَمِعَ النُّورُ وَالظَّلاَمُ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ،
لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَجْتَمِعَ الْحِقْدُ وَالْإِيمَانُ فِي قَلْبٍ، لاَ يُمْكِنُ
أَنْ يَجْتَمِعَ التَّوْحِيدُ وَالشِّرْكُ فِي قَلْبٍ أَبَداً،
((وَيَدَعُ
أَهْلَ الْحِقْدِ بِحِقْدِهِمْ حَتَّى يَدَعُوهُ))،
وَقَدِ اطَّلَعَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِلَى خَلْقِهِ، وَلَكِنَّ هَؤُلاَءِ
بِجَانِبٍ وَبِمَبْعَدَةٍ؛ فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَى هَذَا
الْأَمْرِ، أَنْ يَخْرُجَ مِنْ حَيِّزِ التَّهْرِيجِ، {وَلَتَعْلَمُنَّ
نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ}[ص:
88].
نَعَم! {وَلَتَعْلَمُنَّ
نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ}؛
فَالْمَوْتُ أَقْرَبُ لِأَحَدِكُمْ مِنْ شَرَاكِ نَعْلِهِ.
نَعَم! إِنَّ الْمَوْتَ قَدْ
تَبْقَى لَهُ أَنْفَاسٌ مَعْدُودَةٌ، وَكَمْ مِنْ صَحِيحٍ مَاتَ، وَكَمْ مِنْ
عَلِيلٍ بَرَأَ وَشُفِيَ، كَمْ مِنْ صَحِيحٍ هَلَكَ، وَكَمْ مِنْ عَلِيلٍ نَجَا،
وَلاَ يَعْلَمُ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ إِلاَّ اللهُ.
فَاللَّهُمَّ! يَا أَرْحَمَ
الرَّاحِمِينَ! وَيَا أَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ! وَيَا ذَا الْقُوَّةِ الْمَتِينُ!
-مُصَلِّينَ وَمُسَلِّمِينَ عَلَى سَيِّدِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ- نَسْأَلُكَ
-يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ!- أَنْ تَشْفِيَنَا، وَأَنْ تَشْفِيَ مَرْضَانَا، وَأَنْ
تَشْفِيَ مَرْضَى الْمُسْلِمِينَ.
اللَّهُمَّ عَافِنَا، وَعَافِ
مَرْضَانَا، وَعَافِ مَرْضَى الْمُسْلِمِينَ.
اللَّهُمَّ يَا رَبَّ
الْعَالَمِينَ, وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ, وَيَا ذَا الْقُوَّةِ الْمَتِينُ,
أَبْرِئْ مَنْ مَرِضَ مِنَّا، وَأَبْرِئْ مَنْ مَرِضَ مِنْ إِخْوَانِنَا،
اللَّهُمَّ! أَبْرِئْهُ، وَعَافِهِ، وَاعْفُ عَنْهُ -يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ-.
اللَّهُمَّ عَافِنَا، وَعَافِ
مَرْضَى الْمُسْلِمِينَ، عَافِنَا، وَعَافِ مَرْضَانَا، وَعَافِ مَرْضَى
الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ عَافِنَا، وَعَافِ مَرْضَانَا، وَعَافِ مَرْضَى
الْمُسْلِمِينَ، وَأَحْسِنْ خِتَامَنَا، أَحْسِنْ خِتَامَنَا، أَحْسِنْ خِتَامَنَا،
وَاجْعَلْ آخِرَ كَلاَمِنَا مِنَ الدُّنْيَا
((لاَ
إِلَهَ إِلاَّ اللهُ))؛
إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمد
صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق